أعلنت الجامعة العبريّة في القدس نهاية شهر اذار مارس الماضي، "بفخر"، فوزها بمناقصة جيش الاحتلال لفتح برنامج تعليمي-عسكري مشترك يتضمن استيعاب اكثر من مئة وخمسين جنديًّا من أجهزة المخابرات الى صفوفها التعليميّة وصفوف الدراسة في المساقات المختلفة وعلى رأسها مساقات "دراسات الإسلام" في الجامعة العبريّة.
هذا الإعلان والخطة التعليميّة ليسا بغريبين على إدارة الجامعة العبريّة في القدس، لكن في مستوى التنفيذ يمكن اعتباره تصعيدًا خطيرًا يستوجب ردًا طلابيًا ملائمًا ولا يمكن المرور عليها مر الكرام. في نهاية السنة الماضية استقبلت الجامعة العبريّة مؤتمرًا خاصًّا مشتركًا مع جهاز الأمن العام – الشاباك شرح خلاله للطلاب "أداء وابداع" محققي الشاباك وانجازاتهم العظيمة للأمّة..، وبعد اقل من شهر نجحت الجامعة العبريّة في تسجيل مستوى جديد من الانحطاط عندما اصطفت بجانب "ام ترتسو" الفاشيّة ضد احدى المحاضرات التي تجرأت على ابلاغ احدى المجندات بالحقيقة "لا يمكن ان تأتي بزي عسكري وتتوقعي التعامُل معك كمواطنة عادية".
انّ تأثير العسكرة على المجتمعات بشكل عام كارثيّة، ولها اسقاطاتها في كافّة مجالات الحياة. المجتمع في إسرائيل محكوم تحت هذه الأفكار العسكريّة والهواجس الأمنيّة حتى أصبحت بوصلة معظم افراده وبقرتهم المقدّسة، كما لو أنها من المحرمات، والحديث عنها يخدش بشدّة الأذن الصهيونيّة الحساسة. وحتى تلك التي ادعت نهج اليسار زورًا تلفظ عنها تلك التهم. هي يساريّة في كل شيء حسب ادعائها، لكن ليس عند الحديث عن المنظومة الأمنيّة. والمنظومة الأمنيّة مصطلح فضفاض واسع، طالما اتسع لمزيد من التطرف وهرطقات "اليسار الإسرائيلي" الغبيّة.
ان المخاطر التي تجلبها هذه الخطّة على المؤسسات الاكاديميّة كبيرة، بعضها شهدناه في جامعة حيفا، حقل التجارب الأول للمنظومة الأمنيّة، والبعض لا زال في جعبة العبريّة وعلاقاتها المشوهة مع المؤسسة الأمنية. في حيفا، تراوحت الأضرار بين الجانب الخدماتي المباشر مثل تفضيل هؤلاء المجندين على طلابنا في عدة مجالات منها في مساكن الطلبة، التسجيل للمساقات وغيرها، وأضرار اكثر خطورة ووجوديّة ترتبط بتحويل المؤسسة الاكاديميّة الى ثكنة عسكريّة: فخلال سنوات اعتدنا نحن الطلبة الزي العسكري في الجامعة واعتدنا رؤية الأسلحة داخل الحصص الاكاديميّة، في الصفّ الأول تجد مراهقًا مع بندقيّة وفي الذاكرة تعود صورة الارهابي ناتان زادة ومجزرة شفاعمرو الدمويّة. في الاستراحة نتظاهر تضامنًا مع غزّة، وفي الهاجس السؤال البديهي، أين هؤلاء الجنود من المظاهرة، الن يمرّوا ولو بالصدفة من أمامنا؟ أسئلة مفتوحة حتى يومنا هذا، للسلاح رهبته، هذا ليس عيبًا، بل العيب الاعتياد على وجوده والتعامل معه باعتياديّة لامبالية وغير مسؤولة.
ان التهديد المباشر والوجودي التي تفرضه العسكرة على المؤسسات الاكاديميّة هو الظاهر للعيان، لكن للعسكرة اسقاطاتها، على الطلاب والمحاضرين وكل المتواجدين في الحرم الاكاديمي. ان التواجد بالزي العسكري وحده دون الحاجة للسلاح، يفرض تعاملًا مختلفًا وتوجهات مغايرة من المحاضرين والطلاب تجاه "زملائهم" في الزي العسكري، المتجندين الذي يأتون من منظومة قمعيّة، تقمعهم قبل أي شيء وتحولهم لقامعين لغيرهم يقتحمون حيزًا اكاديميًّا. هذا حيّز مبني على الشكّ والرفض التامّ للمسلمات والبحث العلمي والاكاديمي في كافّة التفاصيل وهو النقيض الأبرز للتربية العسكريّة التي تتبعها كافّة جيوش العالم. فتأثير العسكرة يصل الى فحوى المواد التعليميّة نفسها ويخفض من مستوى الحصص التدريسيّة. هذا بالإضافة الى إضفاء جو من الإرهاب القمعي داخل الدروس التعليميّة تفرضه الة قمعيّة تتمثّل في الزي العسكري.
ان تأثيرات هكذا مخططات لهي كارثيّة على الحيّز الاكاديمي بشكل عام، لكن لديها تأثير سلبي مضاعف عند الحديث عن الجامعة العبريّة وعن الواقع المختلف في القدس الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي المستمر. يدرس في الجامعة العبريّة في القدس مئات وربما الاف الطلاب من القدس الشرقيّة والمناطق المحتلّة، هؤلاء متأثرون بشكل مباشر بالاحتلال الإسرائيلي وممارساته، بالحواجز العسكريّة في الطريق الى الجامعة، تنكيل الجنود المباشر بهم، محاصرتهم، استهدافهم واستهداف وجودهم، والآن بكل بساطة تتوجّه لهم الجامعة بطلب نسيان كل هذا ومشاركة مقاعد الدراسة مع من استوقفهم على الحاجز صباحًا في الطريق الى الكليّة.
ان الغباء، الاستعلاء، الانعزال عن الواقع والطلاب يتجلّى بأقوال وردود فعل الجامعة حول الضجّة التي اثارتها مجموعة شجاعة من المحاضرين الرافضة للمخطط. فهنالك في إدارة الجامعة من يعتقد انّ هذه فرصة للطلاب الفلسطينيين للتعرّف على عطف وانسانيّة الجندي من قريب، بعيدًا عما سمعه الفلسطينيون حول الجيش وممارساته وبعيدًا عن الأفكار المسبقة والتعرّف على حقيقة "أن الجنود لا يملكون قرونًا على رأسهم" كما استهزأ محاضر كبير في الجامعة.
نحن نعلم جيدًا حقيقة جيش الاحتلال، نحن نعرف ممارساته بحقّ شعبنا وشعوب المنطقة، نحن تعلّمنا عن وحشيّة وفظاعة الآلة العسكريّة على جلدنا، في الضفّة، في غزّة، في صبرا، كفرقاسم في دير ياسين وشاتيلا, فلا يتوهّمن بعضكم ولا يسخر من ذكاء طلابنا، بأن ما نقوله وما نعرفه هو أفكار مسبقة. انتم في إدارة الجامعة ليبراليون مستشرقون، ابعد ما يكون عن الواقع المر، وحان الوقت لكم أنتم ان تستيقظوا!
الصورة: العسكرة في التربية والتعليم إفساد خطير لهما (صورة توضيحية – اكتيفستلز)
إضافة تعقيب